***************
البشارة السادسة:
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) يونس )
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم قدم صدق عند ربهم. وكلمة صدق تأتي بعد بعض الكلمات لتؤكد أنها شديدة التأثير فقد جاء في القرآن الكريم: مقعد صدق (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وهو أقرب مقعد لشدة تأتثيره وأثره. ولسان صدق (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) جعل تعالى من ذرية ابراهيم u كل الأنبياء، وهناك مبوأ صدق () فيه من النعم ما فيه وهناك مدخل صدق (رب ادخلني مدخل صدق) بقوة حجة وبيان.
وقدم صدق هي القدم الشديدة الثبات في الشيء. وهؤلاء قدم صدق في التجارة أو السياسة أو العلم وقدم صدق في الوجاهة يوم القيامة. وقدم الصدق في هذه الآية هو الرسول r (رجل منهم) شديد التأثير يوم القيامة وصاحب الشفاعة الكبرى الذي يسجد تحت العرش فيقول له ربه اسأل تُعطى واشفع تُشفّع فيشفع لأمته r حتى لايبقى من النار من في قلبه ذرة ايمان. هذه الأمة بما امتازت به من مراعاة في علاقاتها مع ربها عز وجل لم تتيسر لأي أمة في التاريخ المعاصر أكرمها الله عز وجل وثلثي هذه الأمة في الجنة وهم اللاحقون في الدنيا والسابقون في الآخرة ونبيّهم لا تُرد شفاعته وهم قدم صدق من حيث أنهم مُزكّون في سلوكهم ومطهّرون في أعمالهم (خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم بها) فالتزكية من الوساخة والطهارة من النجاسة وهذه الأمة أمة طاهرة بعقيدتها لأن الشِرك نجس (إنما المشركون نجس) والأمة زاكية بأعمالها وأنسابها فما من أمة نظيفة الأعراض والأنساب وموصولة القربى كهذه الأمة جعل الله تعالى من طهر نسائها وبكارة عذاريها طهراً للنَسَب وهي أمة زاكية تجتنب الخبائث والمحرمات في مأكلها ومشربها وعلاقاتها ومسكنها لا تجلس إلا على طاهر ولا تلبس إلا طاهراً بشّرها الله تعالى بأن لها قدم صدق عند ربها من حيث أنها أمة مرحومة يوم القيامة " إن أمتي هذه أمة مرحومة لا عذاب لها في الآخرة عجّل الله عذابها في الدنيا" من بلاء وفتن ومكفرات الذنوب.
ذكر الله تعالى والخوف منه يتردد على ألسنة الأمة في كل قضية وفي كل حكة تصلي خمس مرات وتصوم وتحج وتراقب الله تعالى في كل حركاتك من حيث الحلال والحرام وهاجس الأمة الدأب على أن بيننا وبين الله تعالى علاقة موثوقة من أجل هذا جعلها الله تعالى على هذا النسق من حيث أنها يوم القيامة ثابتة القدم راسخة التأثير ولهذا جعلنا شهداء على كل الأمم (لتكونوا شهداء على الناس) ولقد منّ الله تعالى علينا برسول الله r (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)) وجعل التزكية قبل التعلّم والتعليم لخصوصية هذه الأمة وتأثي الرسول r من حيث أنه زكّاها من كل القاذورات وهي أمة آمنة في دنياها كما في آخرتها طهّر الله تعالى نفوس الأمة من كل نجس ورجس.
(أنذر الناس) أي المشركين. وقدم الصدق هو الذي جعل الرسول r يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عز وجلّ" وقال r : "ما من مؤمن يموت ويود أن يرجع لهذه الدنيا إلا الشهيد".
عاقبة هذه الأمة خير ما هي فيه وهي شاهدة على كل الأمم ولهذا لها قدم صدق كما للرسول r قدم صدق من حيث أن الله تعالى يقول له سل تُعطى واشفغ تُشفّع. أسأل الله تعالى أن يشملنا بعفوه.
*****************
البشارة السابعة:
اصيغة أخرى التي جعل الله تعالى فيها سراً لا يمكن لعقولنا أن تدركه قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الاحقاف) دعاء عجيب لا غاربة فيما جاء بعده (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) وكما تحدثنا سابقاً عن سر صيغة لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وإنا لله وإنا إليه راجعون فقد عبّأ الله تعالى فيها سرّاً عظيماً.
سن الأربعين لها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله r "إذا بلغ العبد الأربعين رزقه الله الانابة اليه" فالأربعين هي سن النبوة وموسى u واعده ربه أربعين يوماً وبنواسرائيل تاهوا في الأرض أربعين سنة وفي حديث من صلّى الصبح والعشاء أربعين يوماً في المسجد كُتبت له براءة من النار وبراءة من النفاق. ولا يعرف سر الأربعين لكن في هذه البشارة يقول تعالى أن المؤمن إذا بلغ الأربعن سنة يبلغ مكاناً يسمع فيه دعاءه وقد تفرّغ من أعمال حياته وانشغل بما لم يشغله عن عائلته وذريته. ومعلوم أن الأربعون مرحلة الانتاج في المجتمع والأعمال والاقتصاد والوظائف ويذهل الانسان عما حواه ومن حوله ويذهله ما وصل اليه فيعمله عن تربية أولاده والعبرة بذلك أن الرجل الذي وصل الى ما وصل اليه وبلغ أربعين سنة وهي مرحلة النضج وجني الثمار لم ينس أن له ذرية ينبغي عليه أن يعلمهم ويدعو الله تعالى لهم من حيث أنهم يشغلون فكره وعقله وأمنياته (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأصلح لي ذريتي) هذا الدعاء الجامع لوالديه وذريته وإقراره أنه من المسلمين دليل على أن هذا الرجل وصل الى الصلاح ورجل كهذا كانت على لسانه هذه الكلمات وهذا الدعاء له سر خطير ومن ورائه كرم الله تعالى (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) هذا اسلوب من اساليب يوم القيامة.
وهناك من العبادات ما ترقى الى القمم في العبادة والبشارة في الآية يتقبل الله تعالى أفضل عبادة عبدته بها في الدنيا ولها من الأجر ما لها ما لا تصل اليه بقية عباداتك يحاسبك الله تعالى على مستوى هذه العبادة العظيمة (أحسن ما عملوا). هؤلاء الذين ورد ذكرهم في الآية 15 من سورة الأحقاف يعاملهم الله تعالى على هذا المستوى و (نتجاوز عن سيئاتهم) وهذه منحة عظيمة أخرى حتى لا تأكل السيئات الحسنات من حيث أن الله تعالى غفر كل سيئاتهم ثم وعدهم بالجنة (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون).
فعليك أن تكون بارّاً بوالديك وبذريتك وتنوب عن والديك بأن تشكر الله تعالى عنهما وإذا أحسنت رعاية والديك وأولادك والدعاء لوالديك ونفسك وأولادك والاستسلام لله تعالى فاعلم أنك وصلت مرحلة من المراحل التي تنصبّ عليك الرحمات التسع والتسعون.
************
البشارة الثامنة:
شريحة من شرائح عباد الله الصالحين أطلق القرآن عليهم اسم (الأولياء) وقال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) هؤلاء الأولياء كما جاء ذكرهم في الحديث هم المصلّون الذين يؤدون زكاة أموالهم طيّبة بها نفوسهم هذه البداية ثم يكون لهم في كل شأن تقوى خاصة إذن هذه الشريحة من عباد الله تعالى شريحة مفتوحة يستطيع أي عبد من عباد الله أن يدخل اليها حتى يصير من أهلها وما عليك إلا أن تكون مصلّياً ممتازاً محافظاً على الصلاة ومداوماً عليها في مكانها في مكان الدوام الرسمي لها أي المساجد ثم هناك صلوات لا بد من أدائها مكمّلة (صلاة الليل والضحى والأوابين وقيام الليل) لمن يريد أن ينضم لهذه الشريحة المكرّمة التي وعد الله تعالى أن يرزقها البشرى في الحياة الدنيا والآخرة بالاضافة الى الذكر وبتلك العبادات والذكر الذي يترقى بالعبد حتى يصير ولياً من أولياء الله تعالى وتكون موالاته لله تعالى وموالاة الله تعالى له متشابهتان من حيث أحدهما مرتبط بالآخر.
هذه الشريحة يقول الله تعالى أن لها البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة: في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة ومنها ما هو منامي وهذه الرؤيا قد تكون يقظة أو مناماً أو بين بين أو خارقاً أو قد يرى ما يراه غيره حينئذ هذه البشرى في الحياة الدنيا جزاء لمن دخل في هذا العالم والدخول لهذا العالم بالرغم من صعوبة شروطه إلا أن الله تعالى يسّرها عليه لكي يكون من أولياء الله عز وجل وهذه الشروط هي أن يكون قلبك سليماً لا تجد فيه بغضاء لأحد ولسانك ذاكراً وأن يكون قلبك خالياً إلا من الله عز وجل وكل أعراض الدنيا لا يشكل لك مشكلة ولا تذكر منها شيئاً ويكفيك من هذه الدنيا لقمة تسد جوعك وخرقة تستر عورتك وليكن أحدهم أو بعضهم وليس كلهم من النوع الذي قال r فيه: رُبّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه.
هذه الشريحة شريحة متنوعة فيها العلماء والقادة والسياسيون والمجاهدون والفقراء المجهولون فإذا أردت أن تكون من هؤلاء فابدأ بالبداية بتنقية قلبك وتسهر على عمله وفعله ولا يكون بينك وبين الناس خصومة وأنت مع المذنبين ألطف مما أنت عليه مع الصالحين تتآلفهم حتى تجعل أقدامهم على الطريق وأن لا تشغلك الدنيا عن ربك ولا تساوي عندك شيئاً.هذه الشريحة من اهل العِلم وهناك علم يُعطى وعلم يُكتسب وعلم يوهب. هذه الشريحة ملأت الأرض بكراماتهم وبركاتهم وفتوحات الله تعالى عليهم بالعلم والاشارات وما من عصر من زمن النبي r خلا من هؤلاء القوم الذين قال تعالى فيهم (ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون) وإن من أصحاب النبي r من كتب لنا التاريخ عنهم وعن حياتهم ما جعلهم على رأس الأولياء وهم كثيرون وأصحاب الكرامات منهم من كان له في الحروب شأن عظيم من حيث أن الله تعالى سخّر لهم الخوارق نتيجة الاتّباع الصحيح وانشغال قلوبهم بالله تعالى صفاؤها من كل عوارض الدنيا فلا يحبون إلا لله تعالى ولا يبغضون إلا لله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) المائدة) أكرمهم الله تعالى بالرؤى وهي عالم عظيم جليل وهي رسائل مباشرة من الله تعالى ولذلك شدد الاسلام النكير على من يدّعي الرؤيا (يقول رأى ولم ير) أو من يؤل الرؤى وهو لا يعلم هذا العلم لأن في ذلك تلاعب برسالة الله تعالى لهؤلاء.
هذا باب يمكن أن تصل إليه وأول الطريق سلامة القلب وأوسطه ذكر الله وآخره أن تخفف علاقتك بالدنيا فتكون علاقتك بها علاقة زائر يوشك أن يرحل. (ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون) ولهذا فهذه شريحة تستجاب دعواتها وتنصر بها الثغور على امتداد التاريخ الاسلامي كانوا حجر الزاوية في محنهم وسلمهم وحربهم وتربيتهم وعبادتهم وكثير من هؤلاء حموا الأمة من الضلال وجادوا فيها وجادوا بها وجادوا لها ولقد سلّط الله تعالى على هذه الشريحة بعض السفهاء الذين أرادوا أن يكون هذا الدين ديناً جافاً علمانياً ليس فيه روح ولا حياة وإنما مجرد أحكام قانونية لا روح فيها ولا حياة.
(ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون) هؤلاء تجدهم في كل يوم إذا أردت وفي كل منحدر ومنحنى وإذا وفقك الله تعالىلأن تكون منهم فالطريق واسع والفرصة متاحة ويجعل الله تعالى في قلبك حبهم كما يجعل حبك في قلوبهم فإذا فعل الله تعالى ذلك أدركت مبتغاهم ويُحشر المرء مع من أحبّ.